فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

{يا أيّها النبي لِم تُحرّمُ ما أحلّ الله لك}
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة رضي الله عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت به عائشة وكانتا مصادقتين.
وقيل خلابها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة.
روي أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير، وكان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم التفل فحرم العسل، فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل {تبْتغِى مرْضات أزواجك} تفسير ل {تُحرّمُ} أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله {والله غفُورٌ} قد غفر لك ما زللت فيه {رّحِيمٌ} قد رحمك فلم يؤاخذك به {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيمانكم} قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة، أو شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول (إن شاء الله) عقيبها حتى لا يحنث، وتحريم الحلال يمين عندنا.
وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية.
وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين {والله مولاكم} سيدكم ومتولي أموركم.
وقيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم {وهُو العليم} بما يصلحكم فيشرعه لكم {الحكيم} فيما أحل وحرم.
{وإِذ أسرّ النبي إلى بعْضِ أزواجه} يعني حفصة {حديثا} حديث مارية وإمامة الشيخين {فلمّا نبّأتْ بِهِ} أفشته إلى عائشة رضي الله عنها {وأظْهرهُ الله عليْهِ} وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبريل عليه السلام {عرّف بعْضهُ} أعلم ببعض الحديث {وأعْرض عن بعْضٍ} فلم يخبر به تكرما.
قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام {عرّف} بالتخفيف: عليّ أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك.
وقيل: المعروف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية.
وروي أنه قال لها: ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خص الله بها أباها {فلمّا نبّأها بِهِ} نبأ النبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة {قالتْ} حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم {منْ أنبأك هذا قال نبّأنِى العليم} بالسرائر {الخبير} بالضمائر.
{إِن تتُوبا إِلى الله} خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف {فقدْ صغتْ} مالت {قُلُوبُكُما} عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه {وإِن تظاهرا عليْهِ} بالتخفيف: كوفي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره {فإِنّ الله هُو مولاه} وليه وناصره.
وزيادة {هُو} إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته {وجِبْرِيلُ} أيضا وليه {وصالح الْمُؤْمِنِين} ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحا.
وقيل: من بريء من النفاق.
وقيل: الصحابة.
وقيل: واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس.
وقيل: أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ {والملئكة} على تكاثر عددهم {بعْد ذلِك} بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين {ظهِيرٍ} فوج مظاهر له فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه، ولما كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله قال بعد ذلك تعظيما لنصرتهم ومظاهرتهم.
{عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ} {يُبْدِلهُ} مدني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة {أزواجا خيْرا مّنكُنّ} فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيرا منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت: إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيرا منهن {مسلمات مؤمنات} مقرات مخلصات {قانتات} مطيعات، فالقنوت هو القيام بطاعة الله وطاعة الله في طاعة رسوله {تائبات} من الذنوب أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله {عابدات} لله {سائحات} مهاجرات أو صائمات.
وقيل: للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره {ثيبات وأبْكارا} إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات.
{يأيُّها الذين ءامنُواْ قُواْ أنفُسكُمْ} بترك المعاصي وفعل الطاعات {وأهْلِيكُمْ} بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم {نارا وقُودُها الناس والحجارة} نوعا من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب {عليْها} يلي أمرها وتعذيب أهلها {ملئِكةٌ} يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم {غِلاظٌ شِدادٌ} في أجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال {لاّ يعْصُون الله} في موضع الرفع على النعت {ما أمرهُمْ} في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره كقوله: {أفعصيْت أمْرِى} [طه: 93] أو لا يعصونه فيما أمرهم {ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} وليست الجملتان في معنى واحد، إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه {يأيُّها الذين كفرُواْ لا تعْتذِرُواْ اليوم إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون} في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم، أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار.
{يأيُّها الذين ءامنُواْ تُوبُواْ إِلى الله توْبة نّصُوحا} صادقة عن الأخفش رحمه الله.
وقيل: خالصة.
يقال: عسل ناصح إذا خلص من الشمع.
وقيل: نصوحا من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، وبضم النون: حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أو تنصح نصوحا وجاء مرفوعا «إن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع» وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي الاستغفار باللسان والندم بالجنان والإقلاع بالإركان.
{عسى ربُّكُمْ أن يُكفّر عنكُمْ سيئاتكم} هذا على ما جرت به عادة الملوك من الإجابة بـ: (عسى) و(لعل) ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت {ويُدْخِلْكُمْ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار} ونصب {يوْم} بـ: {يدخلكم} {لا يُخْزِى الله النبي والذين ءامنُواْ معهُ} فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر {نُورُهُم} مبتدأ {يسعى بيْن أيْدِيهِمْ وبأيمانهم} في موضع الخبر {يقولون ربّنا أتْمم لنا نُورنا} يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين {واغفر لنا إِنّك على كُلّ شيء قدِيرٌ يا أيّها النبي جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالقول الغليظ والوعد البليغ.
وقيل: بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليْهِمْ} على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان {ومأْواهُمْ جهنّمُ وبِئْس المصير}.
{ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالحين فخانتاهُما فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله شيْئا وقِيل ادخلا النار مع الداخلين} مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما، فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج اغناء ما من عذاب الله.
وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة: ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط.
{وضرب الله مثلا للذِين ءامنُواْ امرأت فِرْعوْن} هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة {إِذْ قالتِ} وهي تعذب {ربّ ابن لِى عِندك بيْتا في الجنة} فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك {ونجّنِى مِن فِرْعوْن وعملِهِ} أي من عمل فرعون أو من نفس فرعون الخبيثة وخصوصا من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم {ونجّنِى مِن القوم الظالمين} من القبط كلهم، وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين {ومرْيم ابنة عِمْران التي أحْصنتْ فرْجها} من الرجال {فنفخْنا} فنفخ جبريل بأمرنا {فِيهِ} في الفرج {مِن رُّوحِنا} المخلوقة لنا {وصدّقتْ بكلمات ربّها} أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره {وكُتُبِهِ} بصري وحفص، يعني الكتب الأربعة {وكانتْ مِن القانتين} لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه.
و(من) للتبعيض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخ موسى عليهما السلام.
ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفارا.
وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة التحريم:
{يا أيها النبي لِم تُحرِّمُ مآ أحلّ الله لك}
في سبب نزولها روايتان؛ أحدهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوما إلى بيت زوجه حفصة بنت عمر بن الخطاب، فوجدها قد خرجت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية فجامعها في البيت، فجاءت حفصة فقالت: يا رسول الله ما كان في نسائك أهون عليك مني. أتفعل هذا في بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضيا لها: أيرضيك أن أحرمها، قالت: نعم، فقال: إني قد حرّمتها».
والرواية الأخرى: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا؛ فاتفقت عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة على أن تقول من دنا منها: أكلت مغافير، والمغافير صمغ العرفط، وهو حلو كريه الريح، ففعلن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكني شربت عسلا، فقلن له: جرست نحله العرفط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أشربه أبدا. وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب فقالت: ألا أسقيك من ذلك فقال: لا حاجة لي به، فنزلت الآية عتابا له على أن يضيق على نفسه بتحريم الجارية أو تحريم العسل»، والرواية الأولى أشهر، وعليها تكلم الناس في فقه السورة، وقد خرج الرواية الثانية البخاري وغيره.
ولنتكلم على فقه التحريم، فأما تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء، فلا يلزم، ولا شيء عليه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة الكفارة، وأما تحريم الأمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينوِ به ذلك لم يلزم. وكان حكمه ما ذكرنا في الطعام. أما تحريم الزوجة فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة: فقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم: إنما يلزم فيه كفارة يمين. وقال مالك في المشهور عنه: ثلاثة تطليقات في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فيحكم بما نوى من طلقة أو اثنتين أو ثلاث، وقال ابن الماجشون، هي ثلاث في الوجهين، وروي عن مالك أنها طلقة بائنة، وقيل طلقة رجعية.
{تبْتغِي مرْضات أزْواجِك} أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك، يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته {والله غفُورٌ رّحِيمٌ} في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم، على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له، وإنما وقع العتاب على تضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كن له فيه أرب، وبئس ما قال الزمخشري في أن هذا كان منه زلة، لأنه حرّم ما أحل الله، وذلك قلة أدب على منصب النبوة.
{قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} التحلة هي الكفارة وأحال تعالى هنا على ما ذكر في سورة [المائدة: 89] من صفتها، واختلف في المراد بها هنا فأما على قول من قال: إن الآية نزلت في تحريم الجارية فاختلف في ذلك. فمن قال إن التحريم يلزم فيه كفارة يمين استدل بها، ومن قال: إن التحريم يلزم فيه طلاق قال: إن الكفارة هنا إنما هي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف وقال: «والله لا أطؤها أبدا». وأما على القول بأن الآية نزلت في تحريم العسل فاختلف أيضا؛ فمن أوجب في تحريم الطعام كفارة قال: هذه الكفارة للتحريم ومن قال: لا كفارة فيه: قال: إنما هي الكفارة لأنه حلف ألا يشربه، وقيل: هي في يمينه عليه السلام أن لا يدخل على نسائه شهرا {والله موْلاكُمْ} يحتمل أن يكون المولى بمعنى الناصر أو بمعنى السيد الأعظم.
{وإِذْ أسرّ النبي إلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا} اختلف في هذا الحديث على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تحريم الجارية، فإنه لم حرمها قال لحفصة: «لا تخبري بذلك أحدا»، والآخر أنه قال: «إن أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده»، والثالث: أنه قوله «شربت عسلا»، والأول أشهر، وبعض أزواجه حفصة {فلمّا نبّأتْ بِهِ وأظْهرهُ الله عليْهِ عرّف بعْضهُ وأعْرض عن بعْضٍ} كانت حفصة قد أخبرت عائشة بما أسر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريم الجارية، فأخبر الله رسوله عليه السلام بذلك، فعاقب حفصة عن إفشائها لسره فطلقها، ثم أمره الله بمراجعتها فراجعها. وقيل: لم يطلقها. فقوله: {فلما نبأت به} حذف المفعول وهو عائشة. وقوله: {وأظْهرهُ الله عليْهِ} أي أطلعه على إخبارها به، وقوله: {عرّف بعْضهُ} أي عاتب حفصة على بعضه وأعرض عن بعض حياء وتكريما، فإن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات والتقصير في العتاب، وقرئ {عرف} بالتخفيف من المعرفة {فلمّا نبّأها بِهِ قالتْ منْ أنبأك هذا} أي لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بأنها قد أفشت سره، ظنت بأن عائشة هي التي أخبرته فقالت له: من أنبأك هذا؟ فلما أخبرها أن الله هو الذي أنبأه سكتت وسلمت.
{إِن تتُوبآ إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} هذا خطاب لعائشة وحفصة، وتوبتهما مما جرى منهما في قصة تحريم الجارية أو العسل. ومعنى {صغتْ} أي: مالت عن الصواب وقرأ ابن مسعود {زاغت} والمعنى: إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة {وإِن تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ} المعنى أن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسؤوه من إفراط الغيرة، وإفشاء سره ونحو ذلك فإن له من ينصره، و{مولاه} هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم، فيوقف على {مولاه} ويكون {جبريل} مبتدأ وظهير خبره وخبر ما عطف عليه، ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون {جبريل} معطوف فيوصل مع ما قبله، ويوقف على {صالح المؤمنين} ويكون {الملائكة} مبتدأ و{ظهير} خبره، وهذا أظهر وأرجح لوجهين: أحدهما: أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفا له، وأما إذا كان بمعنى السيد فذاك يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره، لأن الله تعالى مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزية له، الوجه الثاني: أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل معك وأبو بكر معك وأنا معك، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، فقوله يقتضي معك النصرة {وصالِحُ الْمُؤْمِنِين} اختلف في صالح هل هو مفرد أو جمع محذوف النون للإضافة؟ فعلى القول بأنه مفرد هو أبو بكر، وقيل: علي بن أبي طالب، وعلى القول بأنه جمع فهو على العموم في كل صالح.
{عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ} الآية، نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن عمر قال ذلك ونزل القرآن بموافقته، ولقد قال عمر حينئذ للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله لئن أمرتني بضر عنق حفصة لضربت عنقها، وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان والقنوت، والسائحات: معناه الصائمات قاله ابن عباس: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه مهاجرات وقيل ذاهبات إلى الله، لأن أصل السياحة الذهاب في الأرض، وقوله: {ثيِّباتٍ وأبْكارا} قال بعضهم: المراد بالأبكار هنا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون؛ فإن الله يزوج النبي صلى الله عليه وسلم إياهما في الجنة وهذا يفتقر إلى نقل صحيح، ودخلت الواو هنا للتقسيم. ولو سقطت لاختل المعنى لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، وقال الكوفيون: هي واو الثمانية وذلك ضعيف.
{قوا أنفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا} أي أطيعوا الله وأمروا أهلكم بطاعته، لتقوا أنفسكم وأهليكم بطاعته من النار، فعبر بالمسبب وهو وقاية النار عن السبب وهو الطاعة {وقُودُها} ذكر في [البقرة: 24] {ملائِكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ} يعني زبانية النار وغلظهم وشدتهم، يحتمل أن يريد في أجرامهم وفي قساوة قلوبهم {ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} قيل: إن هذا تأكيد لقوله: لا يصعون الله، وقيل: إن معنى لا يعصون امتثال الأمر، ومعنى يفعلون ما يؤمرون، جدهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس.
{لا تعْتذِرُواْ اليوم} يعني يوم القيامة، ويحتمل أن يكون هذا خطاب من الله للكفار أو خطاب من الملائكة.
{توْبة نّصُوحا} قال عمر بن الخطاب التوبة النصوح هي أن تتوب من الذنب ثم لا تعود إليه أبدا، ولا تريد أن تعود. وقيل: معناه توبة خالصة فهو من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وقيل: هو أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت؛ كتوبة {الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} [التوبة: 118] قال الزمخشري: وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي والنصح في الحقيقة صفة التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، وقد تكلمنا على التوبة في قوله: {وتوبوا إلى الله جميعا}: في [النور: 31] {يوْم لا يُخْزِى الله النبي} العامل في {يوْم} يحتمل أن يكون ما قبله، أو ما بعده أو محذوف تقديره: اذكر، والوقف والابتداء يختلف على ذلك {والذين آمنُواْ} يحتمل أن يكون معطوفا على النبي أو مبتدأ وخبره عبده {نُورُهُمْ يسعى} ذكر في [الحديد: 19] {جاهِدِ الكفار والمنافقين} ذكر في [براءة: 88].
{امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} قيل اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة، وهذا يفتقر إلى صحة نقل {فخانتاهُما} قال ابن عباس: خيانة امرأة نوح في أنها كانت تقول: إنه مجنون، وخيانة امرأة لوط بأنها كانت تخبر قومه بأضيافه إذا قدموا عليه، وكانتا مع ذلك كافرتين، وقيل: خانتا بالزنا، وأنكر ابن عباس ذلك وقال: ما زنت امرأة نبي قط تنزيها من الله لهم عن هذا النقص، وضرب الله المثل بهاتين المرأتين للكفار الذين بينهم وبين الأنبياء وسائل؛ كأنه يقول: لا يغني أحد عن أحد ولو كان أقرب الناس إليه؛ كقرب امرأة نوح وامرأة لوط من أزواجهما. وقيل: هذا مثال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في أول السورة، وهذا باطل؛ لأن الله إنما ضربه للذين كفروا. و{امرأت فِرْعوْن} اسمها آسية وكانت قد آمنت بموسى عليه السلام فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها، فدعت بهذا الدعاء فقبض الله روحها، وروي في قصصها غير هذا مما يطول وهو غير صحيح {مِن فِرْعوْن وعملِهِ} تعني: كفره وظلمه، وقيل: مضاجعته لها، وهذا ضعيف.
{أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا} يعني الفرج الذي هو الجارحة، وإحصانها له هو صيانتها وعفتها عن كل مكروه {فنفخْنا فِيهِ مِن رُّوحِنا} عبارة عن نفخ جبريل في فرجها، فخلق الله فيه عيسى عليه السلام وأضاف الله الروح إلى نفسه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفي ذلك تشريف له {وصدّقتْ بِكلِماتِ ربِّها وكُتُبِهِ} كلمات ربها، يحتمل أن يريد بها الكتب التي أنزل الله أو كلامه مع الملائكة وغيرهم، وكتابه بالإفراد يحتمل أن يريد به التوراة أو الإنجيل أو جنس الكتب، وقرأ أبو عمرو وحفص بالجمع يعني: جميع كتب الله {مِن القانتين} أي من العابدين، فإن قيل: لم قال: {من القانتين} بجمع المذكر وهي أنثى؟ فالجواب: أن القنوت صفة تجمع الرجال والنساء فغلب الذكور. اهـ.